إنه لمقام تكليف لا مقام تشريف
يوشك أن تصبح من المتلازمات, سماع صوت صفارة عال جدا مع خروج سيول من الطلبة من ذلك الباب الواسع, منظر قل من يشاهده, فحيث يمكنك مشاهدته يطوف حارس بعصاه جائيا ورائحا, ينهر كل من يجده متلبسا بجريمة الفراغ, فإما الإخراج من المؤسسة أو الإدخال إلى القسم.
ينطلق صوت الصفارة الذي قد تناساه أحمد وهو منهمك في كتابة بعض المعلومات على دفتره, ليحس بعده بحركة هنا وهناك, وضوضاء ناتجة عن تصادم الأقلام بعضها ببعض, وحزم الحقائب, لا يشعر إلا وقد انتصب قائما ينظر في دفاتره وأقلامه بأي منها سيبدأ بالإدخال, يتفطن إلى عدم وجود محفظته فينصرف ذهنه مباشرة إلى إمكان اختطافها من زميله زكرياء , المعروف بمزاحه الثقيل. يعيد التفكير في الماضي القريب, ليدرك أنه كان قد وضعها خلفه , ما إن يمد يده حتى يحس ببطء حركاته في جمع أشتات كراسته, استقرت هذه الفكرة في ذهنه لملاحظته زميله عبد الله واقفا ينظر إليه دون أن يتكلم, كأنه يحثه على الإسراع, لم يكن المقام مقام إظهار وإبانة, فالمطلوب معروف والإضمار سائغ.
يخطو أحمد بخطوة أولى نحو الباب, ليجد زميله عبد الله قام بثلاث خطوات حثا منه على الإسراع ثم يقول له في حزم: لقد أذن لصلاة العصر, ثم يصمت. غالبا ما يكون ذهن الطالب منهكا جراء التفكير في محتويات الدروس, لذلك عندما يخرج من قاعة الدرس يحاول التواصل مع الآخرين بأقل قدر من الكلمات, ويستعمل دلالة اللزوم كثيرا, فهي تغني عن كثير من المقدمات.
أسرع الزميلان في مشيهما بدءا, ثم خففا السير في أول منعطف, ليصطدما بالفتى زكرياء واقفا يضحك, لم يحاولا التفكير في مشاركته صنيعه, لعلمهما بتفاهة السبب, فبالنسبة لهما صار ذلك أغلبيا عليه, يمران عليه كأن لم يرياه, فيتبعهما ليحاول مشاركتهما في جدهما, لا يفسحان له مكانا بينهما ليشركهما في مستوى مشيهما, يحاول عبد الله أن يستغل تلك الثلاثين ثانية التي تفصلهم عن بلوغ مسجد المؤسسة فيطرح جملة يلخص فيها انطباعه الحاصل بعد الدرس, يمتدح الأستاذ ويدعي الاستفادة, يمضي أحمد كأن لم يسمع شيئا بينما يهمهم زكرياء بشيء وكأنه ينوي الاعتراض أو القدح, يتناسى عبد الله أنه طرح الموضوع أصلا ثم يمضي في طريقه, لا يجدون أنفسهم إلا وقد استقروا في المسجد, يضعون أحذيتهم في الرفوف, كل على حسب ما يدعيه لنفسه من مستوى, فأحمد وعبد الله يضعون أحذيتهم في الرفوف العليا, بينما يرميها زكرياء في أقرب بقعة تعن له. يلتفت الجميع إلى جهة القبلة, لتتسارع في أذهانهم التساؤلات التالية:
هل نصلي تحية المسجد؟ أو هل ننتظر حتى يأتي سائر الطلبة؟ أو نصلي وحدنا؟ ومن منا سيكون الإمام؟ وهم غارقون في تساؤلاتهم لا تفتر أيديهم عن الحركة, فبعضهم يفركها وبعضهم يهوي بها إلى غبار ينفضه من على سرواله, بينما يشتغل زكرياء بإعادة تنظيم جلبابه وكأنه يستعد للإمامة.
بدأ الطلبة بدخول المسجد, وبدأ يمتلئ, وما زال الرفاق على حالهم في مكانهم, وصادف أنهم في أول الصف ومن دخل من الطلبة يقر خلفهم, فكأن الإمام سيكون واحدا منهم, يتفطن إلى هذا الأمر أولا أحمد, ليلحقه في ذلك عبد الله, ويسارعا في الخروج من الورطة بالتقهقر إلى الخلف, لا ينتبه زكرياء إلا وقد أخذوا له وضعية الإمام, واتخذوا هم وضعية المأمون, يصعق وتجحظ عيناه تظاهرا بالرفض, ويزيد جحوظهما حين يسمع صوت إقامة الصلاة من عبد الله, ثم كأن الأمور أخذت مجراها دون كلام, ما إن ينتهي المقيم من الإقامة حتى تلوح على وجه زكرياء علامة الرضا, فيبالغ في إعادة تنظيم ردائه وهز كتفيه, ليأمرهم بعد بتسوية الصفوف, كم يشحذ صوته بكحة تتلوها أخرى يطمئن بها على سلامة صوته الذي سيحتاجه بعد حين.
يولي ظهره لهم ليستقبل القبلة, ينتظر وينتظرون معه, يترقبون تكبيره , فيطلقها بترنم وتنغم , أدرك كل من يعرف زكرياء حق المعرفة أن إمامته خطأ ارتكبه فاعل مجهول, يسارعون إلى تطمين أنفسهم بأنه سيفطن إلى ذلك المقام ولن يتصابى, وبعظم المسؤولية سيدرك.
يضم زكرياء يديه إلى صدره يمينه فوق شماله, ليشرع في همهمة يسمع أقرب مأمون إليه ممن خلفه مباشرة أطرافَها, وبعد هنيهة يتلفظ بكلمة وكلمتين من سورة الفاتحة, وكأنه يطمئنهم بأنه يقرأها وإلا بطلت صلاتهم, ينتهي من الفاتحة ليقرأ ما شاء الله أن يقرأ،تسرح أذهان بعض المأمومين لطول قيامهم, يحدثون في مخيلاتهم مشاريع ومشروعات, وربما انتقل بعضهم إلى التفاصيل ليحدد الزمان والمكان والأسعار, وما سيفعله في أوقات الفراغ, تنتهي كل المشاريع وتذهب أدراج الرياح ولا زال الإمام منتصبا في مكانه, تتحول الأفكار إلى نظرات ثم إلى نحنحات, ليحس الإمام زكرياء بثقله على المأمومين, يهوي راكعا ويسبح ما شاء ليبقى على ذلك الحال مثل ما بقي في سابقه أو أقل, يرفع ويفعل مثل فعله في جميع وضعيات الصلاة.
لكن الإمام لا يتفطن إلى الكلام النفسي لزملائه الطلبة المؤتمين به , بعضهم يسبه سرا, وبعضهم نوى مسبقا إعادة الصلاة حين ينصرف, وبعضهم غالى فنوى أن يعيد صلاته قرب الإمام ليظهر له ولهم شكه في صحة إمامته بهم.
لا ينتهي زكرياء من صلاته ولا يخرج منها بالسلام الذي تنغم به وأطاله, حتى يستدير ليواجه سيلا من النظرات الحادة مصوبة نحوه من بعض المؤتمين , أما بعضهم فازدراه فلم يلق ببصره إليه, وآخرون أشفقوا عليه فلم يشعروه بشيء.
بعد أن كان ينتظر حفاوتهم به وتشجيعهم إياه لإتقانه الصلاة وقيامه بالإمامة أفضل قيام ، يطأطئ زكريا رأسه ويشعر بخيبة أمل , وبلا تعليق ينسل الطلبة أمامه مثل عقد انقطع فتتابعت أجزاؤه سقوطا, ليجد نفسه أمام زميليه السابقين ينظران إليه نظرة إشفاق, يرفع رأسه ويحاول أن يبتدرهم بالكلام معتذرا, فيسكته أحمد ويقول له: هذه عاقبة الرياء.